فخرج في ألف من أصحابه واستعمل على المدينة عبد الله بن أم مكتوم . وكان
رسول الله صلى الله عليه وسلم رأى رؤيا : رأى " أن في سيفه ثلمة وأن بقرا
تذبح . وأنه يدخل يده في درع حصينة . فتأول الثلمة برجل يصاب من أهل بيته
والبقر بنفر من أصحابه يقتلون والدرع بالمدينة " فخرج وقال لأصحابه "
عليكم بتقوى الله والصبر عند البأس إذا لقيتم العدو . وانظروا ماذا أمركم
الله به فافعلوا " . فلما كان بالشوط - بين المدينة
وأحد - انخذل عبد الله بن أبي بنحو ثلث العسكر وقال عصاني . وسمع من غيري ما
ندري : علام نقتل أنفسنا ههنا أيها الناس ؟
فرجع وتبعهم عبد الله بن عمرو - والد جابر - يحرضهم على الرجوع . ويقول "
قاتلوا في سبيل الله أو ادفعوا ، قالوا : لو نعلم أنكم تقاتلون لم نرجع "
فرجع عنهم وسبهم . وسأل نفر من الأنصار رسول الله صلى الله عليه وسلم أن
يستعينوا بحلفائهم من يهود . فأبى ، وقال " من يخرج بنا على القوم من كثب
؟ " . فخرج به بعض الأنصار ، حتى سلك في حائط لمربع بن قيظي من المنافقين
- وكان أعمى - فقام يحثو التراب في وجوه المسلمين ويقول لا أحل لك أن تدخل
في حائطي ، إن كنت رسول الله . فابتدروه ليقتلوه . فقال رسول الله صلى
الله عليه وسلم " لا تقتلوه فهذا أعمى القلب أعمى البصر " .
ونفذ حتى نزل
الشعب من
أحد ، في عدوة الوادي الدنيا . وجعل ظهره إلى
أحد ونهى الناس عن القتال حتى يأمرهم .
فلما أصبح يوم السبت تعبأ للقتال . وهو في سبعمائة منهم خمسين فارسا .
واستعمل على الرماة - وكانوا خمسين - عبد الله بن جبير . وأمرهم أن لا
يفارقوا مركزهم ولو رأوا الطير تختطف العسكر . وأمرهم أن ينضحوا المشركين
بالنبل لئلا يأتوا المسلمين من ورائهم . وظاهر رسول الله صلى الله عليه
وسلم بين درعين .
وأعطى اللواء مصعب بن عمير ، وجعل على إحدى المجنبتين الزبير بن العوام
وعلى الأخرى : المنذر بن عمرو . واستعرض الشباب يومئذ . فرد من استصغر عن
القتال - كابن عمر وأسامة بن زيد والبراء وزيد بن أرقم وزيد بن ثابت ،
وعرابة الأوسي - وأجاز من رآه مطيقا .
وتعبأت قريش وهم ثلاثة آلاف . وفيهم مائتا فارس . فجعلوا على ميمنتهم خالد
بن الوليد . وعلى الميسرة عكرمة بن أبي جهل .
ودفع رسول الله صلى الله عليه وسلم سيفه إلى أبي دجانة .
وكان أول من بدر من المشركين أبو عامر - عبد عمرو بن صيفي - الفاسق . وكان
يسمى الراهب . وهو رأس الأوس في الجاهلية . فلما جاء الإسلام شرق به وجاهر
بالعداوة . فذهب إلى قريش يؤلبهم على رسول الله صلى الله عليه وسلم ووعدهم
بأن قومه إذا رأوه أطاعوه . فلما ناداهم وتعرف إليهم قالوا : لا أنعم الله
بك عينا يا فاسق . فقال لقد أصاب قومي بعدي شر . ثم قاتل المسلمين قتالا
شديدا . ثم أرضخهم بالحجارة .
وأبلى يومئذ أبو دجانة وطلحة وحمزة وعلي ، والنضر بن أنس وسعد بن الربيع
بلاء حسنا . وكانت الدولة أول النهار للمسلمين . فانهزم أعداء الله وولوا
مدبرين . حتى انتهوا إلى نسائهم . فلما رأى ذلك الرماة قالوا : الغنيمة
الغنيمة . فذكرهم أميرهم عهد رسول الله صلى الله عليه وسلم فلم يسمعوا .
فأخلوا الثغر وكر فرسان المشركين عليه فوجدوه خاليا . فجاءوا منه وأقبل
آخرهم حتى أحاطوا بالمسلمين فأكرم الله من أكرم منهم بالشهادة - وهم سبعون
- وولى الصحابة .
وخلص المشركون إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم فجرحوه جراحات وكسروا
رباعيته . وقتل مصعب بن عمير بين يديه . فدفع اللواء إلى علي بن أبي طالب
. وأدركه المشركون يريدون قتله . فحال دونه نحو عشرة حتى قتلوا . ثم جلدهم
طلحة بن عبيد الله حتى أجهضهم عنه . وترس أبو دجانة عليه بظهره والنبل يقع
فيه وهو لا يتحرك .
وأصيبت يومئذ عين قتادة بن النعمان . فأتي بها رسول الله صلى الله عليه
وسلم فردها بيده . فكانت أحسن عينيه .
وصرخ الشيطان إن محمدا قد قتل فوقع ذلك في قلوب كثير من المسلمين فمر أنس
بن النضر بقوم من المسلمين قد ألقوا بأيديهم فقالوا : قتل رسول الله صلى
الله عليه وسلم فقال ما تصنعون بالحياة بعده ؟ قوموا فموتوا على ما مات
عليه . ثم استقبل الناس ولقي سعد بن معاذ ، فقال يا سعد إني لأجد ريح
الجنة من دون
أحد . فقاتل حتى قتل . ووجد به سبعون جراحة .
وقتل وحشي الحبشي حمزة بن عبد المطلب رضي الله عنه . رماه بحربة على طريقة
الحبشة .
وأقبل رسول الله صلى الله عليه وسلم نحو المسلمين . فكان أول من عرفه تحت
المغفر كعب بن مالك . فصاح بأعلى صوته يا معشر المسلمين هذا رسول الله
فأشار إليه أن اسكت . فاجتمع إليه المسلمون . ونهضوا معه إلى
الشعب الذي نزل فيه .
فلما أسندوا إلى الجبل أدركه أبي بن خلف على فرس له كان يزعم بمكة أنه
يقتل عليه رسول الله صلى الله عليه وسلم فلما اقترب منه طعنه رسول الله "
صلى الله عليه وسلم " في ترقوته فكر منهزما . فقال له المشركون ما بك من
بأس . فقال والله لو كان ما بي بأهل ذي المحاز لماتوا أجمعين . فمات بسرف
. وحانت الصلاة فصلى بهم رسول الله صلى الله عليه وسلم جالسا .
وشد حنظلة بن أبي عامر على أبي سفيان . فلما تمكن منه حمل عليه شداد بن
الأسود فقتله وكان حنظلة جنبا . فإنه سمع الصيحة وهو على بطن امرأته - قام
من فوره إلى الجهاد فأخبر رسول الله صلى الله عليه وسلم أن الملائكة تغسله
)
وكان الأصيرم - عمرو بن ثابت بن وقش - يأبى الإسلام . وهو من بني عبد
الأشهل . فلما كان يوم أحد : قذف الله الإسلام في قلبه للحسنى التي سبقت
له . فأسلم وأخذ سيفه . فقاتل حتى أثبتته الجراح ولم يعلم أحد بأمره .
فلما طاف بنو عبد الأشهل يلتمسون قتلاهم وجدوا الأصيرم - وبه رمق يسير -
فقالوا : والله إن هذا الأصيرم . ثم سألوه ما الذي جاء بك ؟ أحدب على قومك
، أم رغبة في الإسلام ؟ فقال بل رغبة في الإسلام آمنت بالله وبرسوله
وأسلمت . ومات من وقته . فذكروه لرسول الله صلى الله عليه وسلم فقال " هو
من أهل الجنة " ولم يصل لله سجدة قط
ولما انقضت الحرب أشرف أبو سفيان على الجبل ونادى : أفيكم محمد ؟ فلم
يجيبوه . فقال أفيكم ابن أبي قحافة ؟ فلم يجيبوه . فقال أفيكم عمر بن
الخطاب ؟ فلم يجيبوه .
فقال أما هؤلاء فقد كفيتموهم . فلم يملك عمر نفسه أن قال يا عدو الله إن
الذين ذكرتهم أحياء وقد أبقى الله لك معهم ما يسوءك . ثم قال اعل هبل فقال
رسول الله صلى الله عليه وسلم " ألا تجيبوه ؟ " قالوا : ما نقول ؟ قال "
قولوا : الله أعلى وأجل " ثم قال لنا العزى ، ولا عزى لكم قال " ألا
تجيبوه ؟ " قالوا : ما نقول ؟ قال " قولوا : الله مولانا . ولا مولى لكم "
ثم قال يوم بيوم بدر . والحرب سجال فقال عمر لا سواء قتلانا في الجنة
وقتلاكم في النار .
وأنزل الله عليهم النعاس في بدر وفي أحد . والنعاس في الحرب من الله . وفي الصلاة ومجالس الذكر من الشيطان .
وقاتلت الملائكة يوم أحد عن رسول الله صلى الله عليه وسلم . ففي الصحيحين
عن سعد قال ( رأيت رسول الله يوم أحد ومعه رجلان يقاتلان عليهما ثياب بيض
. كأشد القتال وما رأيتهما قبل ولا بعد )
ومر رجل من المهاجرين برجل من الأنصار - وهو يتشحط في دمه - فقال يا فلان
أشعرت أن محمدا قتل ؟ فقال الأنصاري : إن كان قد قتل فقد بلغ فقاتلوا عن
دينكم فنزل ( 3 : 144 ) (( وما محمد إلا رسول قد خلت من قبله الرسل )
الآية .
وكان يوم أحد يوم بلاء وتمحيص اختبر الله عز وجل به المؤمنين . وأظهر به
المنافقين . وأكرم فيه من أراد كرامته بالشهادة . فكان مما نزل من القرآن
في يوم أحد : إحدى وستون آية من آل عمران ، أولها ( 3 : 121 - 180 ( وإذ
غدوت من أهلك تبوئ المؤمنين مقاعد للقتال ) الآيات .
ولما انصرفت قريش تلاوموا فيما بينهم . وقالوا : لم تصنعوا شيئا ، أصبتم
شوكتهم ثم تركتموهم وقد بقي منهم رءوس يجمعون لكم . فارجعوا حتى نستأصل
بقيتهم .
فبلغ ذلك رسول الله صلى الله عليه وسلم . فنادى في الناس بالمسير إليهم
وقال " لا يخرج معنا إلا من شهد القتال " فقال له ابن أبي : أركب معك ؟
قال لا . فاستجاب له المسلمون - على ما بهم من القرح الشديد - وقالوا :
سمعا وطاعة . وقال جابر يا رسول الله إني أحب أن لا تشهد مشهدا إلا كنت
معك . وإنما خلفني أبي على بناته فأذن لي أسير معك . فأذن له .
فسار رسول الله صلى الله عليه وسلم والمسلمون معه حتى بلغوا
حمراء الأسد ، فبلغ ذلك أبا سفيان ومن معه فرجعوا إلى
مكة . وشرط أبو سفيان لبعض المشركين شرطا على أنه إذا مر بالنبي صلى الله عليه
وسلم وأصحابه أن يخوفهم ويذكر لهم أن قريشا أجمعوا للكرة عليكم ليستأصلوا
بقيتكم . فلما بلغهم ذلك قالوا ( 3 : 173 ( حسبنا الله ونعم الوكيل ) . ثم
دخلت السنة الرابعة . فكانت فيها وقعة خبيب وأصحابه في صفر
وقعة
بئر معونة
وفي هذا الشهر بعينه من السنة المذكورة كانت وقعة أهل بئر معونة . وفي شهر
ربيع الأول كانت غزوة بني النضير . ونزل فيها سورة الحشر . ثم دخلت السنة
الخامسة
غزوة المريسيع [right]
فكانت فيها غزوة المريسيع على بني المصطلق فأغار عليهم رسول الله صلى الله
عليه وسلم وهم غارون . فسبى رسول الله صلى الله عليه وسلم النساء والنعم
والشاه . وكان من جملة السبي جويرية بنت الحارث ، سيد القوم وقعت في سهم
ثابت بن قيس . فكاتبها ، فأدى عنها رسول الله صلى الله عليه وسلم وتزوجها
، فأعتق المسلمون - بسبب هذا التزوج - مائة أهل بيت من بني المصطلق .
وقالوا : أصهار رسول الله صلى الله عليه وسلم .
.
. [/right]
.
[/right]